يقول المصنف: [فإنه لو كَانَ هذا التوسل، هو الذي كَانَ الصحابة يفعلونه في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما خرجوا يستسقون:اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا] - يعني: العباس.
ثُمَّ أمر العباس بالدعاء فدعا العباس، ودعا الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- والصحابة الكرام هم أفضل النَّاس في العبادة وأحرصهم عَلَى التوسل الصحيح المشروع، وأرجاهم لله، وأحرصهم عَلَى قبول العمل عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأعظمهم معرفةً بحق رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنزلته.
فقد كانوا في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستسقون ويتوسلون بدعائه، فهذا رجل دخل والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المنبر فقَالَ: يا رَسُول الله هلكت العيال وانقطعت السبل، وكذا وكذا، فادعوا الله لنا، فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فجاء الغيث العميم، والحديث مخرج في الصحيحين.
كذلك الأعمى الذي جَاءَ إِلَى النبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكا إليه أنه لا بصر، فخيره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يصبر أو يدعو له، فاختار الدعاء، فدعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهكذا نَجِدُ أنَّ الصحابة الكرام في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يتوسلون إِلَى الله بدعائه، وقد يرده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما جاءوا إليه وهو متوسداً في ظل الكعبة قالوا: يا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادعُ اللهَ لنا، إن البلاء قد اشتد علينا من قريش، فلم يستجب لهم؛ بل قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محمر وجهه من الغضب، المقصود من هذا كله أنهم كانوا يأتون إِلَى رَسُول الله ويقولون: ادع الله لنا في كذا، أو يخرجون يدعون وهو يدعو معهم، أو يدعو وهم يؤمنون، فهذا هو التوسل المقصود به في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما ورد فيه من أحاديث كثيرة فهذه صورته وهذه حقيقته، فعندما توفي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجَاءَ الجدب في عهد عُمَر خرجوا يستسقون ويدعون الله، فلو كَانَ التوسل بالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جائزاً فلماذا لم يقولوا: اللهم إنا نسألك بجاه نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترحمنا وأن تسقنا وأن تغيثنا؟ ما المانع من ذلك؟!
وهَؤُلاءِ هم الصحابة كلهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين عُمَر، الذي تعلمون عِلمَهُ وفقهه ودرجته في الدين يقول: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات نتوسل إليك بعم نبينا، إذاً المسالة بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تختلف اختلافاً كلياً عنها في حياته.
وقوله: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمِّنون عَلَى دعائه كما في الاستسقاء وغيره]، ثُمَّ ذكر ماذا صنع الصحابة الكرام بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أنهم أكثر الأمة إيماناً، وحرصاً عَلَى الخير، وأعظمهم تقرباً وحباً لرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعرفة لمنزلته وجاهه عند ربه، حتى توفي ولحق بالرفيق الأعلى.

وإن توسل الصحابة بجاهه كما يزعم هَؤُلاءِ النَّاس فهم القدوة، ولا محظور في ذلك، وما نَحْنُ إلا أتباع وإن كانوا انصرفوا وعمدوا إِلَى أمر غير ذلك مع معرفتهم به، فنذهب إِلَى ما ذهبوا إليه، إلا أن يتهمهم متهم بأنهم جهلة ولاسيما أنهم جميعاً خرجوا للاستسقاء واحتاجوا إِلَى ذلك، ولم يتوسلوا بجاه النبي. فهل جهلوا أو نسوا كلهم أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له جاهه عند الله لا يموت ولا يفني بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتقاله إِلَى ربه، وأنه كَانَ يجب عليهم أن يتوسلوا بهذا الجاه، فإن قال ذلك قائل، فيا لها من تهمة، وإن لم يقلها فالحق واضح، فالذي وقفنا عليه هو: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات انقطع توسل الصحابة الكرام بدعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.